فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ}
وساعة ينادي الحق عباده المؤمنين قائلًا: يا أيها الذين آمنوا، فكأنه يقدم حيثية الحكم الذي يأتي بعده، ونحن نرى القضاء البشري قبل أن ينطق بمنطوق الحكم، يورد حيثيته، فيقول: «بما أن المادة القانونية رقم كذا تنص على كذا، حكمنا بكذا». إذن: فالحيثيات تتقدم الحكم. وحيثيات الحكم الذي يحكم به الله هي الإيمان به، مثل قول الحق: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]
حيثية الكتابة هنا وفي أي حكم آخر هي إيمان العبد بالله ربًا، فليسمع العبد من ربه. وسبحانه لا يكلف كل الناس بالتكاليف الإيمانية، ولكنه يكلف المؤمنين فقط. وهو يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} فالمؤمن يدخل على الإيمان بقمة القِسط، فالقسط هو العدل، والعدل أن يعطي العادل كل ذي حق حقه. وحق الإله الواحد أن يؤمن به الإنسان ويعترف أنه إله واحد.
إن قمة القِسط- إذن- هي الإيمان. ومادام المؤمن قد بدأ إيمانه بقمة القِسط وهو الإيمان، فليجعل القِسط سائدًا في كل تصرفاته. وإياك أن تجعل القسط أمرًا أو حدثًا يقع مرة وينتهي، وإلا لما قال الحق مع إخوانك المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}.
ولم يقل الحق لك مع إخوانك المؤمنين: كونوا قائمين بالقسط، بل قال: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} أي أن المطلوب هو الاستمرارية للسلوك العادل. فنحن نقول: «فلان قائم» و«فلان قَوَّام». ونعرف أن كلمة «قَوَّام» هي صيغة مبالغة. وعلى ذلك يكون الأمر الألهي لكل مؤمن: لا تقم بالقسط مرة واحدة فقط، بل اجعله خصلة لازمة فيك، ولتفعل القسط في كل أمور حياتك. والقِسط كما علمنا من قبل في ظاهر أمره هو العدل، وأيضًا الأقساط هي العدل.
وقد احدثت كلمة «القسط» ضجة عند العلماء، وقلنا تعليقا على ذلك: إن المسألة بسيرة.. فقسط يقسُط قسوطًا أي جار وظلم، فإذا أذهب الإنسان الجور والظلم يقال: «أقسط فلان» أي أذهب الجور. إذن: القِسط- بكسر القاف- هو العدل الابتدائي، لكن الإقساط هو عدل أزال جورًا كان قد وقع.
وهب أن أناسًا جاءوا لقاضٍ فحكم بينهم بالعدل، فهذا هو القِسط، وقد يستأنف أحد الطرفين حكم المحكمة الابتدائية ووجدت محكمة الاستئناف خطأ في التطبيق فأصدرت حكمًا بإزالة الجور، وهذا الحكم الذي من الدرجة الثانية اسمه إقساط. وهكذا ينتهي جدل العلماء حول هذه المسألة، فالقِسط عدل من أول درجة، والإقساط يعني أنه كان هناك جور فرُفِع، لأنه مسبوق بهمزة اسمها «همزة الإزالة»، فيقال: أعجم الكتاب. أي أن الكتاب كان فيه عجمة، أي كان بالكتاب شيء مستتر وخفيّ أي يعطي معاني الألفاظ فيزيل خفاءها.
وكذلك معنى «أقسط» أي أزال الجور.
والحق يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} فأنت أيها المؤمن قد فعلت بالعقل أول مرتبة في القسط؛ ورددت الإيمان إلى الرب فهو المستحق له فقط، بل لابد أن تكون الشهادة لله. لماذا؟.
هب أن رجلًا كافرًا بالله- والعياذ بالله- ويقيم العدل بين الناس لكنه لا يدخل بذلك في حيثية الإيمان، فالذي يدخل في حيثية الإيمان يكون قائمًا بالقسط وفي باله الله وبذلك تكون الشهادة وإقامة حقوق الله لا لمنفعةٍ ولا لغايةٍ ولا لهوى ولا لغرضٍ، وإنما ليستقيم كون الله كما أراد الله، وإلا لو حكم أحد بهوى لفسدت الأرض، والحق يقول: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]
لذك لابد أن يكون المؤمن قوّامًا بالقسط وفي باله الله، ولذلك فالقيام بالقسط وحده لا يكفي، ونحن نسمع: فلان عادل ولو أنه من ديانة أخرى غير الإسلام أو كان ملحدًا. ونقول: هذا العادل من أي دين أو عقيدة غير الإسلام يأخذ ثناء البشر لكنه لا يأخذ ثناء الله ولا ثوابه، ولذلك فالقوّام بالقسط يجب أن يفعل بقصد امتثال أمر الله لينال الثواب من الله.
{كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} والشاهد في العادة هو من يشهد لمصلحة واحد ضد آخر، وعندما يقر الشاهد بذنب فهو قد شهد على نفسه، والشاهد لمصلحة واحد إنما يفعل ذلك ليرجح الحكم، والشاهد على نفسه يقر بما فعل، والإقرار سيد الأدلة. وشهادة الشاهد تقدم للقاضي الدليل الذي يرتب عليه الحكم. وهكذا يشهد المؤمن على نفسه.
وهناك معنى آخر: أنه يشهد على نفسه ولو كانت الشهادة تجر وبالا عليه، وهذه المعاني من معطيات الإشعاعات القرآنية؛ فالمؤمن يشهد على نفسه للإقرار، وقد لا تكون الشهادة على النفس بل قد تكون الشهادة واجبة عليه يؤديها لمصلحة غيره ولا يخاف فيها الشاهد من السلطان حتى وإن جار السلطان على المؤمن وأصابه بوبال في نفسه أو ماله، ومن الناس من أصابه وبال في نفسه أو أهله من السلطان لمجرد كلمة حق قيلت. فالسلطان قد لا يأخذ الإنسان بذنبه، بل قد يأخذ أهل الإنسان بهذا الذنب. والحق يوضح للعبد: لا تهتم بذلك ولا تقولن سيعذبون العيال أو سيأخذون كل شيء، إنني أنا الموجود المتكفل بعبادي.
ويطلب الحق من المؤمنين: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}. وحين يشهد الإنسان على نفسه فلن يكون أبوه أو أمه أو أحد أقاربه أعز منه.
ثم يدخل بنا الحق إلى أن استحثاثات مخالفة العدالة تدخل فيها الأهواء، وحين يرجح إنسان الباطل غير الواقع على حق واقع، فالمرجح هو هوى النفس، ومنشأ الهوى أن يكون المشهود عليه غنيًا فيخاف الإنسان أن يشهد عليه، فيمنعه من خير ما.
ولذلك حدد الحق قوامة المؤمنين بالقسط والشهادة لله ولو على النفس أو الأب أو الأم أو الأقارب، ولا يصح أن يضع أحد من المؤمنين ثراء أو فقر المشهود له أو عليه في البال، بل يجب أن يكون البال مع الله فقط؛ لذلك قال: {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ}.
وقد يقول قائل: إن الهوى قد ينحاز إلى الغنيّ طمعًا في ثرائه؛ فلماذا يذكر الله الفقير أيضًا؟ ونقول: قد ينحاز الهوى إلى الفقير رحمةً بالفقير فيحدِّث الشاهد نفسه «أنه فقير ويستحق الرحمة»؛ لذلك يحذرنا الحق من الانحياز إلى الغني أو إلى الفقير.
ولا دخل للشهادة بثراء الثري أو بفقر الفقير؛ لأن العبد المؤمن ليس أولى او أحق برعاية مصالح الناس من خالقهم- جل شأنه- ولذلك جاء بالحيثية الملجمة {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ} أي أنك أيها العبد لم تخلق أحدًا منهما ولكن الله خالق الاثنين وهو أولى بهما فليس لك أن تقيم شهادتك على الثراء أو على الفقر لأنك لست القَيّم على الوجود.
والذي يفسد ويشوش على العدل هو الهوى، والمثل العربي يقول: «آفة الرأي الهوى». وإياكم أيها المؤمنون واتباع الهوى حتى لا تفسد قدرتكم على العدل وتجنحوا بعيدًا عنه. والتاريخ العربي يحتفظ لنا في ذاكرته حكاية رجل فاضل ذهب إلى الخليفة وقال له: أعفني من القضاء! فقال الخليفة: فمن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له كل الناس بذلك؟
فقال القاضي: والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرُّطب- أي البلح- وبينما أنا في بيتي وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب وكنا في بواكير الرطب، ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفة عليه مادامت تحبه، ويتابع القاضي حكايته للخليفة: فقلت للخدام من جاء به؟ فأجاب الخادم: إنه واحد صفته كذا وكذا فتذكرت أن مَن أرسل الرطب هو واحد من المتقاضين أمامي، فرددت عليه الرطب، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب، دخل الرجل عليّ فعرفته فوالله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه على الرغم من أني رددت الطبق. وهكذا استقال القاضي العربي المسلم من منصب القضاء.
ويتابع الحق سبحانه: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}. أن تلووا في الشهادة والليّ هو التحريف.. أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، فإن الله بما تعملون خبير، أو أن يُعْرِض الشخص عن أداء الشهادة لأنه يخاف من المشهود عليه؛ لذلك يقال: إنه خائف من المشهود عليه؛ لأن الشهادة ترجح حكم المشهود له؛ لهذا فهو يعرض عن الشهادة، وإن جاء للشهادة فهو يلف الكلمات ويلوي لسانه بها؛ لذلك يقول الحق: {وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
إذن فالذي يفسد العدل هو الهوى، والهوى عمل القلب؛ لذلك نحتاج إلى خبرة الخبير اللطيف. فعلينا أن نعلم أن النيات عمل القلوب، وبذلك صار العمل ينقسم الآن أمامنا إلى ثلاثة أقسام: قول لسان، وفعل بجوارح غير اللسان، ونيات قلوب وهوى. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
القسط العدل، والقيام بالله العدل بإيفاء حقوقه من نفسك، واستيفاء حقوقه مِنْ كلِّ مَنْ هو لَكَ عليه أمر، وإلى تحصيل ذلك الحق سبيل إمَّا أمر بمعروف أو زجر عن مكروه أو وعظ بنصح أو إرشاد إلى شرع أو هداية إلى حق.
ومَنْ بقي لله عليه حق لم يباشر خلاصة التحقيق سره لله.
وأصل الدِّين إيثار حق الحق على حق الخلق، فمن آثر على الله- سبحانه أحدًا إمَّا والدًا أو أُمًّا أو وَلَدًا أو قريبًا أو نسيبًا، أو ادَّخر عنه نصيبًا فهو بمعزل عن القيام بالقسط. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {شُهَداءَ لِلَّه} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خَبرٌ ثَانٍ لكان، وفيه خِلاَف تقدَّم ذِكْرهُ.
والثاني: أنه حَالٌ من الضَّمير المُسْتَكِنِّ في: {قوَّامينَ} فالعَامِل فيها: {قوَّامين}.
وقد ردَّ أبو حيَّان هذا الوجه: بأنَّه يَلْزَم منه تقييدُ كونهم قوَّامين بحال الشَّهادَةِ، وهم مأمُورُون بذلك مُطْلَقًا.
وهذا الردُّ ليْس بِشَيْءٍ؛ فإن هذا المَعْنَى نَحَا إلَيْه ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه قال: كُونُوا قوَّامِين بالعَدْل في الشَّهَادَة على من كانت، وهذا هُو مَعْنَى الوَجْه الصَّائِر إلى جَعْل شُهَداء حالًا.
الثالث: أن يكون صِفَة لـ {قوَّامين}، ومَعْنَى قوله: {للَّه} أي: لِذَات اللَّه، ولوجْهِه ولمرْضَاتِه، وثَوَابِه.
قوله: {وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} {لو} هذه تَحْتَمل أنْ تَكُونَ على بَابِها من كَوْنِها حرفًا لما كان سَيَقعُ لوقُوعِ غَيْرِه، وجوابُها مَحْذُوفٌ، أي: ولو كُنْتثم شُهَدَاءَ على أنْفُسكم، لوجب عَلَيْكُم أن تَشْهدوا عليها.
وأجاز أبو حيَّان أن تَكُونَ بمعنى: {إن} الشَّرطِيّة، ويتعلَّق قوله: {عَلَى أنْفُسِكُم} بمحذوفٍ، تقديرُه: وإن كنتم شُهَدَاء على أنْفُسِكم، فكونوا شُهَدَاءَ لله، هذا تَقْدِيرُ الكلام، وحذفُ «كان» بعد {لو} كَثِيرٌ، تقول: ائتِني بِتَمْر، ولو حَشَفًا، أي: وإن كان التَّمْر حشفًا، فأتني به. انتهى.